أصداء أدبية حديث عن الغناء السودانى والمغنيين أنام ملء جفونى عن شواردها ! النوراني الحاج الفاضلابي
هذا حديث ـ عن الغناء والمغنين جرت بعض معانيه إثر ندوات إذاعية تحدث المتحدثون فيها عن تطور أيقاعات الغناء المواكبة للتلحين زاعمين أن نوعاً من التطور في تعليم الموسيقا أضفى على الغناء القديم لوناً من التطور والتحديث مما جعله أحلى منه قبل هذا التطور الجديد الذي أضيف إليه بعض تلك الألحان القديمة والذي يبدو لنا نحن المواظبين على سماع الألحان القديمة لا نحس جمالاً ولا حلاوة ولا طلاوة ـ أضيفت على تلك الألحان بل يبدو لنا في بعض الألحان الجديدة ما يباعد بين الانسجام والتناغم من جراء علو أصوات الأدوات الحديثة ولله در ابن الرومي عند ما عاب على مغني افتقد غناؤه ذلك التناغم فقال «غناء بمصر وضرب في خرسان « ـ ونحن نعلم أن تناغم الألحان والحركات لون أصيل من مقومات الحسن والجمال ’ يظهر ذلك في « المشى» ويقول أبو الطيب المتنبى فى الاعتذار عن عدم قدرته على حسن المشى وهو من صفات حسن النساء أراد بذلك أنه يفضل الإبل على الحسان قال
الا كل ما شية الخيزلى
فدا كل ماشية الهيدبى
(والخيزلى مشية النساء و الهيدبى مشية الأبل)
ويمضى الشعرالعربي قدماً
ليصل الى ابن الرومى وكيف تيمته المغنية ((وحيد ))بحسنها وحسن غنائها الذى تردده فى هدوء دون صخب ولا ضوضاء قال
يا خليلي تيمتنى وحيد
ففؤادى بها معنى عميد
غادة زانها من الغصن قد
ومن الظبي مقلتان وجيد
وله في حسنها وحسن غنائها قوله ظبية تسكن القلوب وترعها
و قمرية لها تغريد
تغنى كأنها لا تغنى من
سكون الأوصال وهي تجيد
مد في شأو صوتها نفس
كأنفاس عاشقيها مديد
أرأيت أخى القارى كيف أن نداوة الصوت ورقته وسكون الأعضاء من أهم السمات المؤديات الى أحلى الغناء ؟ إنى أخى القارئ أختار لك من قديم الغناء ما فيه حلاوة عجزت تلك الأوتار والألات الأخرى الصاخبة أن تمتعنا بمثلها في تجديدها نقرأ أو نسمع ـ
الشاعرالراحل ـ سيد عبد العزيز يقول للحسناء
يا مداعب الغصن الرطيب
في بنانك ازدهـت الزهور
زادت جمال ونضار وطيب
نترك لك الاستمتاع بذلك اللحن الهادى مع من يؤديه من فناني الحقيبة وأقف معك عند هذه اللغة الشاعرة ـ مفردة وصورةـ مداعب ـ وغصن ـ وطيب بنان ـ وازدهت ـ ونضار وطيب ! ومن فنون الرومانسية العالية نقف عند ذلك البنان الغض المداعب للغصن اللدن ونتساءل معك كيف زاد هذا الغصن نضارة وطيباً عندما يداعب هذه الحسناء ثم يقول
أنا وأنت في الروض يا حبيب
راق النسيم وحلى للمرور
بقى أحلى من ساعة السرور
وأدق من فهم اللبيب
هذه المرة نتجاوز حلاوة الصياغة لنقف عند عمق الصور ودقة المعانى كيف يكون النسيم أحلى من السرور ؟ وكيف يكون أدق من فهم اللبيب! ما يزال سؤالنا يعيد نفسه هل الكلمة الشعرية الغنائية فى عصرها الحديث حقاً وصلت إلى مثل هذا التصوير البديع ؟
ونمشى قليلاً مع شعراء الوطن المبدعين في بلادنا لنقف مع د كتور/ تاج السر الحسن والدكتور عبد الكريم الكابلى في رائعتهما أسيا وافريقيا لنقرأ شعراً وطنياً إنسانياً تجاوب مع الإنسان أخينا في الانسانية في كل موطن عانى شعبه من الظلم فغنى له هذان المبدعان .د/ تاج السر الحسن والدكتور الكابلى قائلين
مصر ياأخت بلادي يا شقيقة
يا رياضاً عذبة النبع وريقة
يا حقيقة
يمضى الحس الوطنى حس شعوب
وادى النيل ليقول د/ تاج السر لمصر
سوف نجتث من الوادي الأعادي
فلقد مدت لنا الأيدي الصديقة
وجه غاندي وصدى الهند العميقة
عجباً لهذا الأندياح الوطنى عبر بلاد الله الواسعة يخص د /تاج السر طاغور الشاعر العظيم فيقول
صوت طاغور المغني
بجناحين من الشعر على روضة فن
ويأتى بعد ذلك المشهد العظيم ـ المتفائل يأتى ليخاطب دمشق قائلاً
يا دمشق كلنا فى الفجر والامال شرق
نعم كلنا فى الفجر والأمال شرق
هذه أحبتى إيقاعات من الماضى تركها المبدعون عبر القرون ولسان حالهم يقول مع أبى الطيب
أنام ملء جفونى عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
وقديماً قال عن الشعر
فسار به من لا يسيرمشمراً
وغنى به من لا يغنى مغرداً
والى لقاء
الدراما السودانية و شبح الافول
عندما ينتهي الناس من اعمالهم يعمدون الى احد شيئين إما الراحة او الترفيه , و لم تكن من وسيلة للترفيه في وقت مضى الا جلوس الاهل مع بعضهم البعض و الاستماع الى الراديو مع احتساء الشاي و القهوة ثم شيئا فشيئا دخل التلفزيون ليملأ فراغا عريضا من حياة الناس , و حيث اصبح هو الاداة الاعلامية الاسرع ايصالا للمعلومة و التسلية و الترفيه فقد اصبح ايضا مرآة المجتمع بما يعرضه من برامج عائلية ووثائقية و اخبار و دراما محلية و عربية .
عد اخي الكريم الى السطور السابقة قليلا و ضع خطين تحت كلمة مراة المجتمع و تحت كلمة دراما محلية , هذا هو اذن التعبير عن المجتمع بالدراما المحلية , و لكن اين هي تلك الدراما المحلية التي تحكي الواقع السوداني بكل تفاصيله , شاهدنا في فترة مضت اعمالا ملفتة مثل اقمار الضواحي و اللواء الابيض و الشيمة و غيرها فأين هذه الصناعة الان مما ينتج في العالم من دراما , حتى اليوم لم المح مسلسلا سودانيا على قناة عربية , بل حتى الانتاج الدرامي الان لم يعد كسابقه .
يمكن ان يعزى الامر الى احد سببين , اما الاول فهو تأثر المشاهد السوداني بالدراما المصرية فبطبيعة الحال هي صنعة ضاربة في القدم وعرضها المستمر على الشاشة القومية خلق نوع من الالفة بينها و بين المشاهد السوداني الذي صار ينتظرها يوميا عند الساعة التاسعة مساء حيث تجتمع العائلة امام التلفاز لمشاهدة تلك الاعمال . وهنا و في هذا التوقيت فإن من بين كل عشرة مسلسلات مصرية يعرض انتاج سوداني واحد فهل نعجب بعد ذلك ان زهد المتفرج السوداني في دراماه المحلية . لا يفسرن احد كلامي بانه انتقاص من الدراما المصرية .
اما السبب الثاني فإنه لاينفصل كثيرا عن الاول حيث ان الانتاج الدرامي على قلته فيه محاولات لتقليد الدراما في الدول الاخرى بدءا من العبارات انتهاء بالانفعالات التي لاتشابه ما يحدث في الشارع السوداني , والدراما بطبيعة الحال تعبر عن موطنها الذي انتجت فيه و بالتالي هي مرآة للشارع السوداني تعكس صورته للغير وعلى قدر المصداقية و الابداع في عرض الفكرة وان كانت بسيطة في بيئة متواضعة يكون نجاح المادة الدرامية .
بالرغم من كل ذلك تبقى هناك اعمال سودانية ممتازة من حيث قصتها وواقعيتها و اداء الفنانين فيها مثل اقمار الضواحي .
ان عملية انتزاع مكانة اعلامية درامية في هذا الفضاء المكتظ بالاف القنوات من كل لون ليس سهلا فإما المضي قدما في انتاج دراما جادة او تركها نهائيا ،
فالمسألة هي تطوير الصنعة و المضي بها نحو الامام حتى تعود الاسرة السودانية لتجتمع و تشاهد حكايات من واقعها . لابد من اعادة احياء الدراما السودانية و نفض غبار السطحية و التقليد و اعادتها سيرتها الاولى بل و افضل . لابد من ضخ الدماء في عروقها بالمواضيع الواقعية ذات المعالجة السلسة و الحبكة الدرامية و الاخراج الفني المميز و الانتاج السخي و كل ذلك يأتي بالدراسة الوافية لهذا المجال و الاستعانة بالخبرة العربية و حتى الاجنبية (والاستعانة لا تعني التقليد ) هذا ان اردنا ان نصل بها الى الافاق .
واخيرا نستبشر خيرا بوجود اتحاد المهن الدرامية .
فن القراءة
د. وليد شريف عبد القادر
نظرية جديدة للإبداع (3)
مشرط البدءالسيكولوجية ونماذجها
... خلاصة رأي المدرسة الفرويدية في الإبداع الفني (أي النظرية السيكولوجية) تتضح من خلال مقارنتها بين نفسية الفنان والمريض النفسي العصابي Nuorotic ، فالعبقرية والمرض النفسي مصدرهما واحد هو (طاقة اللاشعور الذي ينطوي على صراع) فإذا نجحت الأنا الواعية Ego في حل الصراع ظهر السلوك الابتكاري ، أما إذا فشلت وحدث كبت ، فقد ينتهي الكبت إلي ظهور المرض في شكل عصاب Nuorotic فالفنان يلجأ إلى عالم الخيال الفني لكي يحقق فيه بواسطة آليات التسامي Sublimation ما عجز عن تحقيقه في عالم الواقع .. وهو يُعبّر عن رغباته المكبوتة في اللاشعور (الرغبة ، الشعور بالقوة أو الحب أو الجنس... الخ) مثلاً فيما ينتجه من عمل فني ، في حين أن العصابي لا يستطيع أن يعبر عن هذه الدوافع في أي مستوى لذلك تظل مكبوتة في اللاشعور مما يؤدي في النهاية إلى مرض نفسي، فهيا بنا عزيزي القارئ إلى النماذج التي طرحها بروف مصطفى عبده أستاذ(أساتذة الفلسفة بجامعة النيلين) للنظرية السيكولوجية عبر كتابه القيم (دور العقل الإبداعي) والتي سنوردها في (اختصار غير مخل عبر المشارط التالية).
مشرط أول : نموذج دافنشي والسريالية :
-نموذج دافنشي: قدم فرويد علي أساس هذه النظرية تحليلاً سيكولوجياً لعبقرية ليوناردو دافنشي يوضح فيه كيف انعكس انحرافه إلى الجنسية المثلية Homo sexuality في أعماله الفنية والتي جاءت نموذجاً لاختلاط صفات الذكورة بالأنوثة كما يظهر في لوحات (يوحنا المعمدان والموناليزا والجيوكندا والقديسة آن) خاصة في تلك الابتسامة المميزة التي يرجع فرويد أنها لأمه التي تعلق بها إلى حد لم يستطع معه أن (يكوّن) أي علاقة بالجنس الآخر.
-نموذج السريالية: اللاشعور هو ما اعتمدت عليه السريالية ، كما يظهر ذلك من جذور الكلمة (sur. realism) أي ما خلف الحقيقة البصرية الظاهرة وهذا يعني أن المظهر الذي كان الشغل الشاغل للفنانين في الحقب الماضية لا يمثل عند السرياليين كل الحقيقة ، بل يزعم السرياليون أنه لا يمثل إلا خمسها ، والأربعة أخماس الباقية تستقر في اللاشعور ، والأحلام ، وأحلام اليقظة ، وهي التي تمثل الإنسان على حقيقته وعلى فطرته .
- أصدر (أندرية بريتون) الشاعر (مانفستو) أو بيان خاص بها عام 1924م في دعوته إلى توجيه الأبحاث إلى اللاشعور ، لإيجاد التوازن النفسي بين الشعور واللاشعور حيث ظهر بوادر الاختلال في الأشياء لطغيان الشعور على اللاشعور ، فكانت السريالية من هذه الناحية فن العلاج النفسي .
- من روادها مارك شاجال والذي عبر في أعماله عن براءة الطفولة والمتطلع إلي لوحته (صورة مزدوجة مع كأس نبيذ) نلمح سمات السريالية حيث نجد عدة صور في لوحة واحدة ، وكذلك دي كريكو الذي بعث من جديد روعة الأسطورة وسلفادور دالي الذي وصل بالسريالية إلي حد كبير من العبقرية .
- ومن إيجابيات السريالية عبارة فرويد التي صرح بها لسفادور دالي عندما زاره الأخير بلندن بقوله (إن ما أراه طريفاً في فنك ليس هو اللاشعور بل هو الشعور) أو أنني لا أجد طرافة في (البارنويا) التي تتظاهرون بها ، بل في طريقة تظاهركم ذاتها ، أي أن السرياليين ينتجون فناً لا شعورياً هم أنفسهم شاعرون به أو لنقل إنهم يجيدون تقليد عالم اللاشعور، والإيجابية التي نلمحها من هذه المفارقة (أن الفن يكون في أعلى نماذجه إذا كان نتاج العقل الصرف الممزوج بالحلم أو الخيال الصرف).
مشرط أخير : تعقيب
أولاً: من إيجابيات النظرية السيكولوجية أنها نقلت الإبداع من مفاهيم قوى أسطورية غيبية إلي بحث داخل الإنسان .
ثانياً: إغفالها لمسألة الأداء والتنفيذ من سلبيات هذه النظرية ، فوقعت أيضاً تحت وطأة الخلط بين منشأ العمل الفني ، والعمل الفني وهو يتخذ شكلاً آخر بعد الإنشاء.
ثالثاً: أفكار التسامي عن فرويد أو الإسقاط عند يونج أفكار موجودة عند عامة البشر، فإذاً لماذا يبدع المبدع أشياء تحتاج إلى أكثر من تساؤل ؟
رابعاً : تحامل فرويد على ليوناردو دافنشي وهو يلوي عنق السريالية حتى تنطبق مناهجها عليه ويظهر هذا من إيراد فرويد (علم النسر) بما يتفق مع نظريته ، وفق ذلك أن أعمال دافنشي دليل دامغ على فكر عقلي عالي المستوى لا على لا شعور يأتي بغتة ويذهب.
خامساً: دعوة السريالية إنامة الوعي تحت وسادة المخدرات للحد من رقابة العقل أفقدت العمل الإبداعي أحد أهم عناصره ألا وهو (المتلقي) إذ يتحتم عليه أن يكون في حالة الفنان اللاشعورية أو اللاواعية ليفهم وليدرك تلك الأعمال وطبعاً هذا غير معقول ومنطقي .
سادساً: يؤخذ على نظرية فرويد في اللاشعور أنها ترجع مصدر العبقرية إلى أحداث الطفولة التي تشكل نفسية كل إنسان إلى آخر عمره ، مما يلغي أثر نمو التجارب الاجتماعية التي يمكن أن يكتسبها على مدى حياته .
أخيراً: تقسيم فرويد للحياة النفسية إلى أنا ، وأنا أعلى ، وهوا ، يباعد بينه وبين المنهج العلمي التجريبي ... وللحديث بقية أشياء وأشياء ... إن كان في العمر إيعاز بنبض البقاء.
وفي الختام وحتى الملتقى أعزائي القراء أسأل الله لكم اليقين الكامل بالجمال حتى يقيكم شر الابتذال في الأشياء ..
أشتات عربيات
من مجالس الشيخ أبي عاصم
قُلْ لأسماءَ أَنْجِزي الميعادا وانظُري أنْ تزوِّدي منكِ زادا
جعفر محمد عثمان
من مجالس الشيخ أبي عاصم
قال التلميذ الفتى لأستاذه الشيخ:-
سلامُ الله على شَيْخ أشياخِنا الأجَلّ, نِبْراسِنا المستَضاء, وبَدْرَنا الوَضَّاء , وبَِحْرِنا المستََمدّ, وسَحابِنا المستمطَر, وصاحب رأينا الذي نرتَضيه ,ونجمِ سُرانا الذي نستَهديه, وعَلَم دَرْبِنا الذي ليس معه ضَلال, وشيخِ مجلسِنا الذي إنْ قال فما لأحدٍ بعده مَقال, وسيِّدِ نادينا الذي إنْ أشارَ أو قضَى, فشأنُنا السَّمعُ والطاعة, فالرأيُ ما ارتَضاه، والحكْمُ ما قَضاه. ولن نبرَحَ إن شاء اللَّه كلَّما رأيناه ,وهو في عافية موفورة, وساحةٍ بنعمة اللهِ ممطورة, لنْ نبرحَ إن شاء اللَّه نحمَدُ اللَّه إليه, على ما أَفاضَ من الخير عليه, وأبعَدَ من الشرِّ عنه , وأوْسَعَ من الرزْقِ له, وأَوْدَعَ من العِلْم فيه, وأَفادَ من الخَلْق به. ثم لن نَبْرحَ مِنْ بَعْدُ نَشكرُ للشيخ المعتَزِّ باللَّه دونَ سِواه, كلَّ أَفضالِه علينا, وإحسانِه إلينا، في مجالسِه هذه العامرات بكل تالدٍ , من محاسنِ الأَقدمين , أو طارفٍ من بدائع المحْدَثين, في أدبٍ وفنّ, وصُوَرٍ وعِبَر, وفِكَر وخِبَر, نسألُ فنُجاب, ونَستَهدي فنُهدَى, ونَستَعْلِم ونستَخْبِر, فنُعلَّم ونُبَصََّر، ونُفَهَّم ونُذَكَّر, ونُنَجَََّز في أمورِ الحياةِ ونُحَنَّك, ونُطْلَعُ من أَسرارِ النُّفوس على كلِّ محجوب, ومِنْ غرائبِ طباعِها على كلِّ مستور, فنسَأَ اللَّهُ لنا في أجَلِ الشيخ الأَعَزِّ, وجنَّبَه ما عاشَ محذُورَ خطَرِه, ووقّاه مِنْ دَهْرِه مرهوبَ غِيَرِه, وبارك له في لُبِّّه وسَمْعِه وبَصَرِه.
ونحن مشتَهُونَ على شيخ أشياخِنا في مجلس اليوم الوضئِ الزاهر بلألائه, السَّنِىِّ الباهرِ بأَضْوائِه , بَعْضَ ما بَعُدَ عَهْدُنا به, فطالَ شوقُنا إليه, ولَهفُنا عليه, مِن حِسانِ مختاراتِه, وروائعِ نادراتِه, ونحن بعدُ مشتهون عليه فَوْقَ اشتهاء, أن يكونَ مُختارُه مِمَّا قال الأقدمون, توكيداً لحقّهم وسَبْقِهم, وفَوْقِهم, في ميدان الشعرِ الجميلِ الصَّادق, الراسمِ المصوِّر ذي الافتِنان، الرائعِ بكلِّ مقياسٍ من مقاييسِ الأقدمين والمُحْدَثين.
قال الشيخ أبو عاصم:
حُبَّاً وكرامةً يا فتى الفِتْيان. وأنا عارضٌ في مجلِس اليوم بالحَديث لصاحب هذَيْنِ البيتينِ الجميلَيْنِ ثُمَّ لشئٍ من شِعره الذي شرق ذكرُه وغرَّّب، فآنَقَ وأطرَب، فأمّا البيتان فإليكهما:
ألا تسألانِِ اللهَ أنْ يَسْقىَ الحِمَى
بَلَى،فسَقَى اللهُ الحِمَى والمَطاليا
وأَسألُ مَنْ لاقيتُ:هل مُطِر الحِمَى
فهلْ يسأَلَنْ عنّي الحِمَى كيف حالِيا؟
والمَطالي: هي مَباركُ الإبلِ في الدّيار، وليس من هَمِّيَ الآنَ أنْ أقول في البيتَيْن، لأَنّ غيرَهما مِنْ شِعْر الشاعرِ هو ما أريد, غيرَ أنَّني لستُ أدَعُ الإشارةَ إلى شئٍٍ فيهما, لعلَّ مَنْ الناس من يَعيبُه على الشاعر, غيرَ مُحِقٍّ ولا مُنْصِف . وذلك تَكرارُه كلمةَ (الحِمَى) في البيتَيْن أربعَ مَرَّات . وأوَّلُ ما أنا قائله في هذا التَّكرار أَنَّك تَراه جميلاً عذباً، غيرَ مُستثقلٍ ولا مَمْجوج, وكثيراً ما يكون التكرار بهذه المَثابةِ في كلام العرب، والمعَوَّل إنما هو على المقام، ثم تركيبِ الكلام, وهذا شئٌ مَرَدُّ الحكم فيه إلى الذَّوق أو التذَوُّق لا إلى قاعدةٍ أو قانونٍ مُطَّرد.
هذه واحدة وأخرى هي أنَّ الحمى ليس إلا رَمْزاً من الشاعر إلى مَنْ يُحبُّه، ويُؤْثره من سُكَّان ذلك الحِمَى, أَعنِي جميلتََه (العامريَّةَ), التي شُهِر بحبّها, وأنت واجدٌ دليلَ ذلك أو مِصْداقَه في قَوْل صاحبِه العاشقِ الآخَر:
أمُرُّ على الدِّيار ،ديارٍ «ليلى»
أُقُبِّلُ ذا الجدارَ ،وذا الجدارا
وما حُبُّ الديارِ سكنَّ قلبي
ولكن حُبُّ مَنْ سَكنَ الديارا
فتكرارُ ذكْرِ الشاعرِ الحِمَى إنَّما مَرْجعُه إلى تلَذُّذِه واستمتاعه بذلك التكرار, ثم إلى حَنينِه واشتياقِه لتلك التي هي كلُّ همّه, أو جلُّ هَمِّّه من الحِمَى, وأهلِ الحِمى , وشهيدٌ بذلك - لمن يَحتاج إلى شَهيد سؤالُه ذلك الزَّخَّارُ بالعاطفةِ اللاهبةِ قائلاً: فهل يَسألَنْ عني الحِمَى كيفَ حالِيا؟
والشاعر هو الصِّمَّةُ بنُ عبدِالله القُشَيْرِي، وهو بدَويٌّ من عَصْر بني أميَّة، هَوِىَ امرأةَ من بناتِ عمّه, وأبَى عمُّه تزويجَها إياه, وزوَّجَهُ قومُه امرأةًَ غيرَها, فلم يلبثْ أن تركها مُهاجِراً إلى الشام، وقِيلَ إنَِّه خرجَ غازياً إلى بلاد الدَّيلَم فمات بطَبَرِسْتان.
وأروعُ شعرِه وأشهرُه هو عينيَّتُه المعدودةُ في باهراتِ القصائدِ, بصِدْقها المُؤَثِّر وعاطفتِها المشبُوبة ومُوسيقاها الحزينةِ المهموسة. ومنها يقول:
حننتُ إلى ريّا،ونفسُك باعدتْ
مزارَك من رَيَّا،وشَعباكُما معا!
فما حَسَنٌ أِنْ تأتيَ الأمرَ طائعاً
وتجزعَ أنْ داعي الصَّبابةِ أَسْمَعا
كأنَّك لم تَشهَدْ وَداعَ مُفارقٍ
ولم تَرَ شعبَىْ صاحِبَيْنِ تَقطَّعا
وأوَّلُ ما يُشار إليه من هذه الأبيات، هو ذلك الأُسلوبُ الفنيُّ الجميلُ من أساليب التَّعبير، وهو( التَّجريد) فالشاعر لا يُعَبِّر عن نَفسِه وخواطرِها بأُسلوب المتكلِّم, بل بأُسلوب المخاطَب, وكأنَّه جرَّد مِنْ نَفسِه شخصاً آخَرَ, يَتَوجُّه إليه بالخطاب، وليس أنسَبُ لمعْرِض الكلام وفَحواه, في الأبيات، من هذا الأسلوب، لأَنَّ مَدار الكلام فيها على لَوْم الشاعر لنفسه, وإنحائِه عليها بالتَّثريبِ وتَضْعيفِ الرأي. والشاعرُ –أو ذلك الشخصُ المخاطَب- مُسْتَحِقٌ للملام، أشد الملام, لأنه ذهب مُهاجِراً إلى أقاصِي البلاد، تاركا موطنَهُ, و ملعبَ صِباه، فها هو ذا اليومَ مِنْ (رَيّا) وديارِ(رَيّا) بحيثُ يَبْعُد المَزار, ويَعِزُّ الّلقاء, تَعْصِفُ به الحُرَقَ واللَّوعات, وتُذِيبُه من الأشواقِ نارٌ لا تَخمُد ولا تَهْمُد , ومن النَّدامة والحسَراتِ آلامٌ لا تَهْدَأ, وقد فعَل بنفسه ما فعَل طائعاً مختاراً , فما لَهُ اليومَ يَقْتَاتُ بالتَّحنانِ والجزَع, ويَنامُ على مثْل جمرِ الغَضا من الأسَفِ والَّلهَف, وكأنَّه لم يرَ قطُّ وداعَ اثنَيْنِ بينهما هَوًى,ولا فراقَ صاحبَيْن تَبدَّد منهما الشَّملُ الجميع.
والشاعر هنا إنما يُغالط في الحقائقِ نفسَه, فمسافةُ البُعْد سحيقةٌ, بَيْنَ أن يشهَدَ فراقَ متفارقَيْن, و وَداعَ متعاشقَََيْن, وأنْ يكونَ هو نفسُه أحد هذَيْن, وهو لا يَجهل اْلفرقَ بين رؤية الجمْر، والتقلُّبِ عليه, أو مَشْهَدِ العَلْقم، وتجرُّعِه, كلَّ إِصباح وإمساء , وفيما بينَهما مِنْ الآناء, ولكنَّه الإمعانُ في تَعذيب النَّفس إنْ شئتَ، أو محاولةُ خداعِها عن ذلك الفََرْق بين الحالَيْن إن شِئْتَ.
وبعدُ يا فتَى الفِتْيان، فإنَّ هنا موضعاً لتَحقيقِ نِسْبَةِ بَيْتٍ يُدْخله الرُّواة – أو بعضُهم- في أبيات شاعرِنا الصِمَّة القُشَيْرِيّ، وهو :
بكَتْ عيني اليُسْرَى فلما زجَرتُها
عن الجهلِ بعد الحِلْم أَسْبَلَتا معا!
والمشكلةُ في تفسير البيت ماثلة ناطقة , إنْ أقررنا نسبةَ البيت إلى الصِمَّة, إذ كيف يبكي أَوَّلاً بعَيْن، ثم مِنْ بعدُ بالاثنَيْن؟ ولكنَّ المشكلة تَنجلِي, والخفاءَ يتَّضح، إنْ وضعنا البيتَ موضعَه من قصيدةٍ أخرَى, هي للشاعر (مُتََمِّم بنِ نُوَيْرَة ) في رثاء أخيه (مالكِ بنِ نُوَيْرَة) وهي قصيدةٌ على وزن قصيدة الصِمَّة وقافيتِها، وقد كان (مُتَمّم) ذا عينٍ عَوراء أو كما تقولُ العربُ في كِنايتها الراقيةِ المهذَّبة :كان ممتّعاَ بإحدَى عينَيْه - وقد قيلَ إنَّه بكَى أخاه أشدَّ بكاء، حتى دمَعَت عينُه الذاهبة، ولا مِرْيَةَ قطُّ عندي – يا فتَى الفِتيان- فيما جلَوتُ عليك من مَقالٍ في هذا البيت, وقد سهَّل خَطأَ الرواة في نسبَتِه إلى الصِمَّة, ما أسلفتُ و لك من اتفاق القصيدتَيْن الرائعتين في الوَزْن وفي القافية, وأزيدُك هنا اتفاقََهما في التَّعبير عن الأَسَى والجزَع, على اختلاف السبب والباعث. وأرْجَحُ الظنِّ أن العامريَّةَ الأثيرة قد كان تزوَّجها من الناس مَنْ سار بها نَحْو اليَمَن, فإنَّ الصِّمَّةَ يقول مخاطباً صاحبَيْه, أو صاحبَه المفرَدَ مُثنّياً له على عادة العربِ الأقدمين, وقد لاماهُ لشدَّة جَزَعِه و وَهَن جلده:
ألا يا خليليْ الَّلذَيْن تواصَيا
بِلوْمِي، إلا أنْ أُطيعَ وأَسْمَعا!
قِفا، إنه لا بُدَّ مِنْ رَجْعِ نَظرةٍ
يَمانِيَةٍ، شَتَّى بها القومُ أو مَعا!
وأَرْجَحُ الظَّنِّ كذلك أنَّ صاحبَيْه ذَيْنِكَ كانا يُرافقانه في رحلته تلك التي خرَج فيها مُغاضِباً لقومه، مُهاجِراً عنهم إلى حيثُ هاجرَ من بلاد الشام, أو طَبَرِسْتان، بدليلِ قولِه بعدُ من قَصيدتِه:
قِفا ودِّعا نَجْداً، ومَنْ حَلَّ بالحِمى
وقَُلَّ لنَجْدٍ عندنا أَنْ يُودِّعا!
وقوله قبل:
قفا، إنَّه لا بدَّ من رَجْع نظرةٍ
يمانيةٍ، شَتَّى بها القومُ أو مَعا!
ويمكن أن تكون هذه النظرةُ اليمانيةُ – غيرَ ما أسلفناه- نظرةَ لوعةٍ واشتياقٍ تلقاءَ الجَنُوب, أي نَحْوَ نَجْد، بعدَما أَبْعَدَ هو ورفقتُه في المَسِير نحو الشَّمال، أي تُجاهَ الشام.
ثم استمعْ بعدُ- يافتَى الفِتْيان- إلى هذا الغِنَاءِ الجميل، المتْرَع بالشَّجا المُطْرِب, أو الطَّرَبِ الشَّجِيّ، يُنَغِّمه لنا الشاعر, وهو يُخْطِر على بالِه / مُسْتَحضِراً ومُتَذكَِّراً أروعَ مناجاةٍ وأعذبَها، كانت بينَه وبين المحبوبةِ في سُوَيعات الّلقاء قبل أن تَعصِفَ به وبها رياحُ النَّوى الشَّطُون. يقول:
أما وجَلالِ اللهِ ،لو تَذكُرينَني
كذِكْرِيكِ، ما كفكفْتِ للعَيْنِ مَدْمَعا!
فقالت:بلى واللهِ ذكْراً لَو أنّه
يُصَبُّ على صُمِّ الصَّفا لَِتَصَدَّعا!
ولمَنْ شاء أن يُقارنَ بين الذِكرَيْن, أو القَّدْرَيْنِ :قَدرِه عندَها وقدرِها عندَه ! أمّا أنا فلشدَّ ما يرُوعُني ويَملِك على لُبّي وحِسّي قَسَمُه بجَلال اللَّه، في فَخامتِه ورَوْعتِه حتى لََيُوشِكُ أنْ يُلْمِسَنِي الصِّدق لمساً، فيما أقسَمَ عليه.
ونمضي مع الصِّمَّة في طريق رحْلتِه أو ذكْرياتِ رحلته، وهو يقطع السَّباسبَ والفَلَوات، ويُصْعِدُ في الثَّنِيّات والشِّعاب ثم يَهْبِطُ منها إلى السُّهول والبطاح، حتى إذا تَرك وراءَه الجبل المسمَّى (بِِشْراً) فصار حائلاً بينه وبين ديار مَنْ أحبَّ, جعَل يَصْغُو بعُنُقه ملتَفِتاً وراءَه المرَّةَ بعد المرَّةَ, والكرَّةَ بَعْدَ الكرَّة، مُعانِقاً بعينَيْه ما قد غاب، أو أَخذ يَغيبُ عن مدَى بَصَرِه قليلاً قليلاً، حتى غَدا في التِباسِه على النظر سراباَ أو شِبْهَ سَراب. ولم يَزَلْ يُدِيمُ الالتفاتَ وراءَه ماضياَ في مَسِيره حتى أَوْجَعَهُ عنُقُه فَرْطَ التِفات. وَلْنَسْتَمِع إليه يقول :
ولما رأيتُ (البِِشْر) قد حالَ بينَنا
وجالتْ بناتُ الشَّوقِ في الصَّدر نُزَّعا
تلفَّّتُّ نحوَ الحَيِّ، حتّى وجدتُّنِي
وُجِعْتُ مٍن الإصغاءِ لِيتاً وأَخْدَعا!
واللِّيتُ: صَفْحَةُ العُنُق والأًخْدَعُ :عِرْقُ بعًيْنِه فيه, ولا مُنْتَهى لجمال قوله( وجالَتْ بناتُ الشَّوقِ في الصَّدْرِ نُزَّعا ) إذ جعَل للشَّوق بناتٍ يَخْتَلجْنَ في الصَّدر، و يَضْطَرِبْن. أما قولُه «نُزَّعا» فممّا يَحتَمِل في الإبانة عن روعته كثيرَ كلام.
هذا وقد جاء الشَّريف الرَّضيّ، مُوسيقارُ القَرْنِ الرابع الهِجْري بمثْل قولِ الصِّمَّة القُشَيْرِيّ وذلك أبياتُه:
ولقد مررتُ على ديارِهمُ
وطُلولًها بيد البِِلَى نَهْبُ!
ووقفتُ حتى ضجَّ من لَغَب
نِضوِي، ولجّ!َ بعَذْليَ الركبُ!
وتلفَّتَتْ عيني، فمُذْ خَفِيَتْ
عنّي الطُلولُ تلفَّّتَ القلبُ!
وليس يَخْفَى أَثَرُ الحضَارة والثَّقافة في تَلَفُّّتِ «الشّريف» أوَّلاً بعَيْنِه لا بعُنُقِه، ثم تَََلَفُّتِه مِنْ بَعْدُ بقَلْبه حينَ غابتْ الأَطلال، فلَمْ يَبْق لرؤية العَيْن مَجال.
أمّا ختامُ أبياتِ الصِمَّة فبيتان هما من أَسْيَر الشعر ذكراَ , وأشهَرِه شهرةً بيْنَ أهلِ الأدَب، حتى إِنَّهما لَيجريان مَجْرَى الأمثالِ في الحنين إلى الماضي، والشوقِ إليه، والحسرةِ عليه، ثم في اليأسِ منه، والاستراحةِ عنه إلى الدَّمع السَّخين، حين ينقطع الأَملُ في كرّ السنين، يقول الصِمَّة:
وأذكُرُ أيامَ الحِمى ثم أنْثَنِي
على كبدي من خَشْيةِ أن تََصَدَّعا!
وليستْ عَشِيّاتُ الحِمَى بِرَواجِعٍ
عليكَ ، ولكن خَلِّ عينيك تَدْمَعا!
الشعر نغم
هذه أبيات نادرة النظير في الشعر الجاهليِّ سلاسةً وعذوبة، وهي للمُرقّّشِ الأكبر عَمْرِو بنِ سَعْدِ بنِ مالك، في (أسماءَ) ابنةِ عَمِّه، وكان لها عاشقاً ، فتزوَّجها في غَيْبته رجلٌ من قبيلة (مُراد) وسار بها إلى قومه, يقول المُرَقِّش:
قُلْ لأسماءَ أَنْجِزي الميعادا
وانْظُري أنْ تُزوِّدي منكِ زادا
أَينما كنتِ أو حَلَلتِ بأَرضٍ
أو بلادٍ، أَحيَيْتِ تلكَ البلادا
إن تَكُونِي تَرَكْتِ رَبْعَكِ بالشَّامِ
وجاوَزْتِ حمْيرَاً ومُرادا
فارْتجِي أَن أَكونَ منكِ قريباً
فاسْألي الصَّادِرِين والوُرَّادا
وإذا ما رأَيْتِ رَكْباً مُخِبِِّيـنَ
يَقُودونَ مُقْرَباتٍ جِيادا
فَهُمُ صُحْبتِي على أَرْحُلِ المَيْـسِ
يُزَجُّونَ أَيْنُقاً أَفْرادا
وإذا ما سمَعتِ من نحوِ أَرضٍ
بِمُحِبٍّ قد ماتَ أَو قِيلَ كادا
فاعْلَمِي غيرَ عِلْمِ شَكٍّ بأَنِّي
ذاكِ، وابْكِي لِمُصْفَدٍ أَنْ يُفادى
الميس :خشب تصنع مه الرحال والأينق جمع ناقة
والمصفد: المقيد
كليمات في اللغة
الصواب أن يقال دُوَّامة الحياة او دُوَّامة الشَّواغل بضم الدال ولا يقال: دَوّامة بالفتح.
يُفهم أن يُقال: تَمَّ بناءُ البيت مثلاً كما نفهم أن يُقال: بُنى البيت(بالبناء للمجهول) إن كان المراد محضَ الإخبار عن حدوث البناء لا الإخبارعن اكتمال مراحلِه، ولكنَّ غيرَ المفهوم هو ما عَمَّ البلاءُ به في كلام المحْدَثين من تركهم استعمالَ الفعلَ المبنيِّ للمجهول حيث يجب او يحسُنُ استعمالُه واستعاضَتِهم عنه بالفعل(تََمَّّ) حتى حين لا يَحتمل الحدثُ النقصَ ثُمَّ التمام،أو حينَ احتمالِه ذلك ولكنَّ الإفادةَ به تكونُ مقصودة كقولهم: تَمَّ اعتقالُ السارق في داخل البيت بدلاً من اُعتُقِل السارق وكقولهم : (وقد تَمَّ إبلاغُ المسئولين) بدلاً من ( وقد أُبلغ المسئولون). ومِثلُ الفعل تمّ الفعلُ (جرَى) فهم يستعملونه في غير موضعه بديلاً من الفعل المبنيِّ للمجهول كقولهم: وقد جرَى إبلاغُ المسئولين.
بطاقة ..
خلجات النفوس
المثقف ودوره الموءود
حينما مثل جاليلو أمام محكمة دينية بتهمة الهرطقة كانت تلك البداية التي تحققت من خلالها سلطة المثقف كسلطة ثالثة بين السلطة الزمنية المتمثلة في الملك والسلطة الدينية المتمثلة في الكنيسة أو فلنقل أنها كانت سلطة موازية لهما . لقد ثبت وعلى نحو موازٍ أيضاً ومنذ عصر التنوير ذاك أن التغيير منوط بتأثيرات كامنة في العقل الجمعي للمجتمع المعني وهي أدوات ذات قدرة على إنتاج الحراك ودفعه إلى وجهات مرسومة أو متطلع إليها. المثقف بذاته حالة تختزن في داخلها مردود التراكمات والتجارب وتفاعلاتها بما يمكنه أن يكون عنصر دفع وابتدار يتقدم على الراهن السائد وهي الرؤية التي تجعل منه مصدر إلهام وريادة ذات تأثير دافع و بالوسع ذكر أمثلة شديدة السطوع. فما من مؤرخ يستطيع أن ينكر دور فكتور هوغو وكتابه العقد الاجتماعي في إرساء مبادئ الثورة الفرنسية وقبل ذلك إلهامه للجموع بوجهة الحراك الثوري وتراكمه في الوجدان الشعبي . من الأمثلة أيضاً ارتباط تروتسكي بالثورة الروسية وتعميق الرؤية بالواقع المزري ومسبباته في روسيا القيصرية. إن خلق المناخ المؤات لحراك التغيير ليس الميدان الوحيد للمثقف المتفاعل مع واقعه ولكنه قد يتخطى دوره التنويري إلى دور أكثر ارتباطاً بالقيادة الفعلية وهو دور يجد الكثير من الترحاب في عالمنا الحديث. لا نستطيع أن نشير إلى الهند الحديثة دون ذكر نهرو وأثره الضخم في الخروج من الجسد المريض الذي خلفه الاستعمار البريطاني الحاذق في القارة الهندية . وفي الثورات أمثلة أخرى لا تذكر إلا مرتبطة بقادة مزجوا بين القيادة التطبيقية والتنوير والإلهام فهناك عمر المختار في ليبيا ومحمد شامل في آسيا الوسطى والأمير عبد القادر في الجزائر وابن فودة في غرب إفريقيا. ولا يستطيع المرء أن يتحدث عن المقاومة في مصر دون ذكر الأفغاني والكواكبي أما سعد زغلول فهو المثال المجسد للزعامة الملهمة . لقد كان سعد زغلول مجرداً من كل أثر من الخلفيات التي تصنع زعيماً في الشرق الأوسط من قبيلة أو طائفة أو معتقد ديني عدا ثقافته وتأثيرة الكاريزمي ورغما ً عن ذلك كان رمزاً ملهماً للمجتمع المصري المعقد والمركب من متنافر المكونات والأصول والأعراق والمعتقدات.
من الغريب ألا يلحظ الأثر الواضح لاتحاد وظيفتي المثقف والسياسي رغم تواتر الأمثلة ورغم جدواها التاريخية البارزة. لولم يكن لنكولين على سدة حكم الولايات المتحدة الأمريكية من كان سيكون قادراً على إقناع الشماليين بخوض حرب طاحنة ومفزعة إلى أقصى حدود الإفزاع من أجل مبدأ مجرد كتحرير العبيد. لو لم يكن تشرشل رئيساً لوزراء بريطانيا هل كان بمقدور بريطانيا الصمود في وجه الهجوم الهتلري الكاسح و مكائده الاقتصادية الماكرة .
إن المثقف بوظيفته الفاعلة سيظل هدفاً سلطوياً مستداما ليحال بينه وبين دوره المؤثر الخطر وليبقى دون دائرة الفعل والتأثير ولتمحق مقدراته و تسحق سحقاً لا هوادة فيه.
علي حسن نجيلة
الفلسفة والشعر والحكمة :
وقفتان مع ابو العلاء المعرى (1—2)
صلاح عبد الله نور الدين
شغل ابو العلاء المعري كتيرا من النقاد والادباء العرب ولفت انظار كثير من الشعراء في عصره وفي العصور الحديثة والوسطى والمتمعن في شعره العميق يلاحظ فلسفته ورايه في الحياة وان كان جليا لبعض اهل الخواطر الحاضرة والبديهة السريعة ففي هذه العجالة نقتطف شذرات من شعره القوي والرصين بعيد المعاني الواضح في ميله للحكمة والعبر والنصائح هذا بوجه عام وفي شعره عبارات وكلمات اخريات احتسبها عليه بعض النقاد انها حشرته في زمرة المتزندقين والجماعات الملحدة وهي وقفات تحتاج الى تانٍ وتدقيق لان شعره يعبر به عن رأيه ورؤيته ومزاجه الخاص فتارة يتسم بالصفوة وحضور الايمان وتارة يفلت من قيود الاسلام حسب اقوال بعض الفقهاء وهذا بحر خضارم ليس لي فيه ما يعينني على الغوص فيه وهياك معي اخي القارئ الكريم الى هذه الشذرات من شعره يقول في بعض قصائده التي تحريت منها شعر الحكمة فيما انشد بهذه التوجيهات التي لا يتصف بها الا الرجل الهمام وفيها إشارات واضحات عما يجيش في نفس ابي العلاء في ذلك الزمان المشتعل بالحراك الشعري والأدبي عموما
أركع لربك في نهارك وأسجد
ومتى أطقت تهجدا فتهجد
وإذا غلا البر النقي فشارك
الفرس الكريم وساو طرفك تمجد
وأجعل لنفسك من سليط ضيائها
أدما ونزر حلاوة عنجد
وارسم بفخار شرابك لا ترد
قدح اللجين ولا إناء العسجد
يكفيك صيفك من ثيابك ساتر
وإذا شتوت فقطعة من برجد
أنهاك أن تلي الحكومة أوترى
حلف الخطابة أو إمام المسجد
وذرالإمارة واتخاذك درة
في المصر يحسبها حسام المنجد
تلك الأمور كرتها لأقارب
وأصادق فابخل بنفسك أو جد
ولقد وجدت ولاء قوم سبة
فاصرف ولاءك للقديم الموجد
ولتحل عرسك بالتقي فنظامه
أسنى لها من لؤلؤ وزبرجد
وانزل بعرضك في أعز محلة
فالغور ليس بموطن للمنجد
لعلك أخي القاري وقفت معي في قوله
وإذا غلا البر النقي فشارك
الفرس الكريم وساو طرفك تمجد
ولاحظت المعنى العميق والبعيد في إتخاذ الخلة من البر النقي والذي إذا غلا عنك فليس لك عزاء سوى الفرس الكريم ولطالما انت تنشد العزة والرفعة فساو طرفك تمجد ومساواة الطرف تعني غضه عن أعراض المسلمين وهي الصفة الحميدة التي أمر الله بها عباده المؤمنين الذي شهد لهم الله بالإيمان بفعل هذا الأمر وإن كان فعله يكشف عن درجات الناس في إيمانهم وإمتثالهم بأمر الله عز وجل كما في قوله تعالي ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم ان الله خبير بما يصنعون )
وفي ذلك يقول عنترة بن شداد العبسي في أروع صور العفة عن أعراض الناس وذلك قبل الإسلام ففي عهد الإسلام أصبح هذا الغض واجبا لمن أراد المجد له ولأسرته يقول عنترة
داري ودار الجار واحدة
وإليه قبلي ينزل القدر
ماضر جار قط أجاوره
إن لم أكون لداره ستر
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي الخدر
وعنترة هذا يسبق ابو العلاء في شعره هذا والذي يربط بينهما فاسم غض البصر وحسن الجوار والمعاملة التي أنزلها أهل الجاهلية وصدر الاسلام محلها وأوشكت ان تتلاشى في مجتمعنا الاسلامي الحاضر الذي يهتم بحداثة الغرب وحضارتها التي تذهب به الي مهب االريح ومهابط الغور ومأوى الرذيلة الذي كرهه أهل الجاهلية فكيف يرضاه أهل الاسلام اليوم ؟؟؟ وفي هذه الابيات التاليات نلاحظ أيها القارئ الفطن كيف وقر الزهد في نفس ابي العلاء المعري من الإسراف في متاع الدنيا وهو يهدي اليك اجمل الوصايا من الإفراط في التبذير والبذخ في المأكل والمشرب والملبس في زمانهم وتذكر فرق الليل والنهار بين متاعهم ومتاع الدنيا اليوم وقد بسطت النعم وتبدلت الأحوال ولكن هل من يرعوي ؟؟؟ وقد باع الناس الآ خرة بعرض من الدنيا وأصبح الهم الكبير هو التنافس في الدنيا ومراكز الحكم والسلطة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها ونرى ان ابو العلاء غلا في إعتزالها حتى من ان يكون في حلف الخطابة أو إمام المسجد وكذلك يقول ان من يتخد الامارة في الامصار ليس الامارة بالحسام المنجد
وارسم بفخار شرابك لا ترد
قدح اللجين ولا إناء العسجد
يكفيك صيفك من ثيابك ساتر
وإذا شتوت فقطعة من برجد
أنهاك أن تلي الحكومة أوترى
حلف الخطابة أو إمام المسجد
وذرالإمارة واتخاذك درة
في المصر يحسبها حسام المنجد
حتي قال ان تلك الامور قد كرهها للاقارب والاصدقاء الذين احبهم في اشارة الى بقاء الصداقة معه لمن استفاد من تلك الاشارات ولمن وجد السبة من ولاء قوم والاهم بسبب المنافع والمصالح الرخيصة وما اكثرهم هذا الزمان فهم يواجهون بالسب والاذلال ويتمادون في ولائهم الرخيص لانهم قد فقدوا كل غال وثمين ولم يبقَ لهم إلا الابتذال في الاشياء حمانا الله واياكم أيها القراء الكرام
تلك الأمور كرهتها لأقارب
وأصادق فابخل بنفسك أو جد
ولقد وجدت ولاء قوم سبة
فاصرف ولاءك للقديم الموجد
فصرف الولاء للقديم الموجد بحسبه حفظ ماء الوجه من الاذلال والمهانة وفي ختام قصيدة ابي العلاء يقول ولتكن حلاوة عرسك بالتقوى فإنها أجل الزينة للمرأة حتى أنها تكسبها نورا ووضاءة وسنا أكمل هالة من اللؤلؤ وحلي الزبرجد وأتم أبياته بأن ينزل المرء بعرضه أعز منازل الكرامه وتلك لعمري مرامي أهل النفوس الكبيرة والهمم العالية
ولتحل عرسك بالتقى فنظامه
أسنى لها من لؤلؤ وزبرجد
وانزل بعرضك في أعز محلة
فالغور ليس بموطن للمنجد
وحتى نلتقي في الوقفة الثانية القادمة ان شاء الله نترككم في رعاية الله وحفظه من شر الابتذال ومواطن الغور والذل والهوان الذي يقول فيه الامام الشافعي رضي الله عنه
قنعت بالقوت من زماني
وصنت نفسي عن الهوان
خوفا من الناس ان يقولوا
فضل فلان على فلان
والي اللقاء ان شاء الله تعالى